فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} أي يا صاحبي فيه إلا أنه أضيف إلى الظرف توسعًا كما في قولهم: يا سارق الليلة أهل الدار؛ ولعله إنما ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجان ودار الأحزان التي تصفو فيها المودة وتتمحض النصيحة ليقبلا عليه ويقبلا مقالته؛ ويجوز أن يراد بالصحبة السكنى كما يقال: أصحاب النار وأصحاب الجنة لملازمتهم لهما، والإضافة من باب إضافة الشيء إلى شبه المفعول عند أبي حيان وإلى المفعول عند غيره ولا اتساع في ذلك، وقيل: بل هناك اتساع أيضًا، وأنه أضافهما إلى السجن دونه لكونهما كافرين وفيه نظر، ولعل في ندائهما بذلك على هذا الوجه حثًا لهما على الإقرار بالحق كأنه قال لهما: يا ساكني هذا المكان الشاق والمحل الضنك إني ذاكر لكم أمرًا فقولوا الحق فيه ولا تزيغوا عن ذلك فأنتم تحت شدة ولا ينبغي لمن كان كذلك أن يزيغ عن الحق، وإنما حمل الصاحب على ما سمعت لأن صاحب السجن في الاستعمال المشهور السجان أو الملك، والنداء- بيا- بناءًا على الشائع من أنها للبعيد للإشارة إلى غفلتهما وهيمانهما في أودية الضلال.
وقد تلطف عليه السلام بهما في ردهما إلى الحق وإرشادهما إلى الهدى حيث أبرز لهما ما يدل على بطلان ما هما عليه بصورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بإبطال ما ألفاه دهرًا طويلًا ومضت عليه أسلافهما جيلًا فجيلًا فقال: {ءَأرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ} متعددون متكثرون يستعبدكما منهم هذا وهذا، والكلام على ما صرح به أبو حيان على حذف مضاف أي أعبادة أرباب متفرقين: {خَيْرٌ} لكما: {أَم اللهُ} أي أم عبادة الله سبحانه: {الْوَاحدُ} المنفرد بالألوهية: {الْقَهَّارُ} الغالب الذي لا يغالبه أحد جل وعلا، وهو أولى مما قاله الخطابي من أنه الذي قهر الجبابرة بالعقوبة والخلق بالموت.
وذكر الزمخشري أن هذا مثل ضرب لعبادة الله تعالى وحده ولعبادة الأصنام، واعترضه القطب بأن ذلك إنما يصح لو نسبا تارة إلى أرباب شتى وأخرى إلى رب واحد كما في قوله تعالى: {ضرب الله مثلًا رجلًا فيه شركاء} [الزمر: 29] الآية لكنهما نسبا إلى أرباب وإلى الله تعالى، فكيف يكون مثلًا؟! وأجاب بأنه يفسر الله تعالى برب واحد لأنه في مقابلة أرباب، وإنما عبر عن رب واحد بالله تعالى لانحصاره فيه جل جلاله.
وقال الطيبي أيضًا: إن في ذلك إشكالًا لأن الظاهر من الآية نفي استواء الأصنام وعبادتها بالله تعالى وعبادته فأين المثل؟ ثم قال: لكن التقدير أسادات شتى تستعبد مملوكًا واحدًا خير من سيد واحد قهار فوضع موضع الرب، والسيد الله لكونه مقابلًا لقوله: {أأرباب} فيكون كقوله تعالى: {ضرب الله مثلًا رجلًا فيه شركاء} [الزمر: 29] الآية.
وقرر في الكشف ما ادعى معه ظهور كونه مثلًا ظهورًا لا إشكال فيه، والحق أنه ظاهر في نفي الاستواء وإنّ جعله مثلًا يحتاج إلى تأويل حسبما سمعت عن الطيبي إلا أنه لا يخلو عن لطف؛ ولعله الأولى وإن أحوج إلى ما أحوج.
وحمل التفرق على التفرق في العدد والتكاثر مما ذهب إليه غير واحد، وحمله بعضهم على الاختلاف في الكبر والصغر والشكل ونحو ذلك مما يحصل لها بواسطة تأثير الغير فيها، وجعله إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة.
وأما التعدد فيشير إليه جمع أرباب باعتبار أنه جمع فيكون ذكر الواحد على هذا في مقابلة ما أشير إليه من التعدد، والقهار في مقابلة ما أشير إليه من المقهورية والعجز، والمعنى أمتعددون سميتموهم أربابًا عجز مقهورون متأثرون من غيرهم خير أم الله أي صاحب هذا الاسم الجليل الواحد الذي يستحيل عليه التكثر بوجه من الوجوه القهار الذي لا موجود إلا وهو مسخر تحت قهره وقدرته عاجز في قبضته.
وقيل: المراد من: {متفرقون} مختلفو الأجناس والطبائع كالملك والجن والجماد مثلًا، ويجوز أن يراد منه من لا ارتباط بينهم ولا اتفاق، وكثيرًا ما يكنى بذلك عن العجز واختلال الحال، وقد استنبط الإمام من الآية غير ما حجة على بطلان عبادة الأصنام، وظاهر كلامه أنه لم يعتبرها مثلًا فليتأمل.
ثم إنه عليه السلام زاد في الإرشاد ببيان سقوط آلهتهما عن درجة الاعتبار رأسًا فضلًا عن الألوهية، وأخرج ذلك على أتم وجه فقال معممًا للخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر كما هو الظاهر، وقيل: مطلقًا، وقيل: من معهما من أهل السجن: {مَا تَعْبُدُونَ من دُونه} أي من دون الله تعالى شيئًا: {إلا أَسْمَاءَ} أي ألفاظًا فارغة لا مطابق لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداق إطلاق الاسم عليه لا وجود له أصلًا فكانت عبادتهم لتلك الألفاظ فقط: {سَمَّيْتُمُوهَا} جعلوها أسماء: {أَنتُمْ وءَابَاؤُكُمْ} بمحض الجهل والضلالة: {مَا أَنْزَلَ اللهُ بهَا} أي بتلك التسمية المستتبعة للعبادة: {من سُلْطَان} أي حجة تدل على صحتها، قيل: كانوا يطلقون على معبوداتهم الباطلة اسم الآلهة ويزعمون الدليل على ذلك فردوا بأنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه هذا الاسم عقل ولا نقل ثم أخذتم تعبدون ذلك باعتبار ما تطلقونه عليه، وإنما لم يذكر المسميات تربية لما يقتضيه المقام من إسقاطها عن مرتبة الوجود وإيذانًا بأن تسميتهم في البطلان حيث كانت بلا مسمى كعبادتهم حيث كانت بلا معبود، ويلحق بهؤلاء الذين يزعمون أنهم يعبدون الله تعالى وهم يتخيلونه سبحانه جسمًا عظيمًا جالسًا فوق العرش أو نحو ذلك مما ينزهه العقل والنقل عنه تعالى- تعالى الله عما يقول الظالمون- علوًا كبيرًا لأن ما وضع له الاسم الجليل في نفس الأمر ليس هو الذي تخيلوه بل هو أمر وراء ذلك وهو المستحق للعبادة وما وضعوه هم له ليس بإله في نفس الأمر ولا مستحق للعبادة وهو الذي عبدوه فما عبدوا في الحقيقة إلا اسمًا لا مطابق له في الخارج لأن ما في الخارج أمر وما وضعوا الاسم له أمر آخر.
{إن الْحُكْمُ} أي ما الحكم في شأن العبادة المتفرعة على تلك التسمية وفي صحتها: {إلاَّ لله} عزَّ سلطانه لأنه المستحق لها بالذات إذ هو الواجب بالذات الموجد للكل والمالك لأمره: {أَمَرَ ألاَّ تَعْبُدُوا} أي بأن لا تعبدوا أحدًا: {إلاَّ إيَّاهُ} حسبما يقتضي به قضية العقل أيضًا.
والجملة استئناف مبني على سؤال ناشئ من الجملة السابقة كأنه قيل: فماذا حكم الله سبحانه في هذا الشأن؟ فقيل: أمر الخ، وقيل: في موضع التعليل لمحذوف كأنه قيل: حيث لم يكن الحكم في أمر العبادة إلا له فلا تكون العبادة إلا له سبحانه أو لمن يأمر بعبادته وهو لا يأمر بذلك ولا يجعله لغيره لأنه سبحانه أمر أن لا تعبدوا إلا إياه، وهو خلاف الظاهر.
وجوز أن يكون سرد هذه الجمل على هذا الطرز لسدّ الطرق في توجيه صحة عبادة الأصنام عليهم أحكم سدّ فإنهم إن قالوا: إن الله تعالى قد أنزل حجة في ذلك ردوا بقوله: {ما أنزل الله بها من سلطان} وإن قالوا: حكم لنا بذلك كبراؤنا ردوا بقوله: {إن الحكم إلا لله} وإن قالوا: حيث لم ينزل حجة في ذلك ولم يكن حكم لغيره بقي الأمر موقوفًا إذ عدم إنزال حجة تدل على الصحة لا يستلزم إنزال حجة على البطلان ردوا بقوله: {أمر ألاَّ تعبدوا إلا إياه}.
{ذلك} أي تخصيصه تعالى بالعبادة: {الدِّينُ الْقَيِّمُ} الثابت الذي دلت عليه البراهين العقلية والنقلية: {وَلكنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أن ذلك هو الدين القيم لجهلهم تلك البراهين أو لا يعلمون شيئًا أصلًا فيعبدون أسماء سموها من عند أنفسهم معرضين عما يقتضيه العقل ويسوق إليه سائق النقل، ومنشأ هذا الإعراض الوقوف عند المألوفات والتقيد بالحسيات وهو مركوز في أكثر الطباع ومن ذلك جاء التشبيه والتجسيم ونسبة الحوادث الكونية إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب ونحو ذلك. اهـ.

.قال القاسمي:

ولما ذكر، عليه السلام، ما هو عليه من الدين القويم، تلطف في الاستدلال على بطلان ما عليه قومهما من عبادة الأصنام، فضرب لهما مثلًا يتضح به الحق حق اتضاح، بقوله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} وصفهما بالصحبة الضرورية المقتضية للمودة، وبذل النصيحة. أي: يا صاحبي فيه. فجعل الظرف توسعًا، مفعولًا به. أي: أأرباب شتى تستعبد الناس خير لهم، أم أن يكون لهم رب واحد قهار لا يغالب؟!.
قال بعضهم: دلت الآية على أن الشرع كما جاء مطالبًا بالاعتقاد، جاء هاديًا لوجه الحسن فيه. وذلك أن هذه الآية تشير إشارة واضحة إلى أن تفرق الآلهة يفرق بين البشر في وجهة قلوبهم إلى أعظم سلطان يتخذونه فوق قوتهم. وهو يذهب بكل فريق إلى التعصب لما وجه قلبه إليه، وفي ذلك فساد نظامهم كما لا يخفى. أما اعتقاد جميعهم بإله واحد، فهو توحيد لمنازع نفوسهم إلى سلطان واحد، يخضع الجميع لحكمه، وفي ذلك نظام أخوتهم، وهي قاعدة سعادتهم. فالشرع جاء مبينًا للواقع في أن معرفة الله بصفاته حسنة في نفسها، فهو ليس مُحْدِثَ الحسن. انتهى.
وفي قوله: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ} إشارة إلى ما كان عليه أهل مصر لعهده عليه السلام، من عبادة أصنام شتى. يقول بعضهم: كما أن مصر كانت تغلبت في العلوم والسلطة، كذلك في عبادة الأصنام، فإن أهلها فاقوا كل من سواهم في الضلال، فكانوا يسجدون للشمس وللقمر والنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض.
{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} أي: من دون الله: {إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم} يعني أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة، ثم طفقتم تعبدونها، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها: {مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} أي: حجة تدل على صحتها: {إِنِ الْحُكْمُ} أي: في أمر العبادة والدين: {إِلاَّ لِلّهِ} لأنه مالك، وهو لم يحكم بعبادتها؛ لأنه: {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}؛ لأن العبادة غاية التذلل، فلا يستحقها إلا من له غاية العظمة: {ذَلِكَ} أي: التوحيد الدال على كمال عظمة الله، بحيث لا يشاركه فيها غيره: {الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي: الحق المستقيم الثابت: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لجهلهم، ولذا كان أكثرهم مشركين.
تنبيه:
لا يخفى أن قوله تعالى: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ} إلى هنا، مقدمة لجواب سؤالهما عن تعبير رؤياهما، مهد عليه السلام بها له ليدعوهما إلى التوحيد، ليزدادا علمًا بعظم شأنه، وثقة بأمره؛ توسلًا بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه من هدايتهما، لاسيما وأن أحدهما ستعاجله منيته بالصلب، فرجا أن يختم له بخير.
قال الزمخشري: لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترض ذلك، فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام، وجعل ذلك تخلصًا إلى أن يذكر لهما التوحيد، ويعرض عليهما الإيمان، ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله. وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم، أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة الحسنة والنصيحة أولًا، ويدعوه إلى ما هو أولى به، وأوجب عليه مما استفتي فيه، ثم يفتيه بعد ذلك. وفيه: أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم، فوصف نفسه بما هو بصدده- وغرضه أن يقتبس منه، وينتفع به في الدين- لم يكن من باب التزكية. انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}
استيناف ابتدائي مصدر بتوجيه الخطاب إلى الفتيين بطريق النداء المسترعي سمعهما إلى ما يقوله للاهتمام به.
وعبّر عنهما بوصف الصحبة في السجن دون اسميهما إمّا لجهل اسميهما عنده إذ كانا قد دخلا السجن معه في تلك الساعة قبل أن تطول المعاشرة بينهما وبينه، وإما للإيذان بما حدث من الصلة بينهما وهي صلة المماثلة في الضراء الإلف في الوحشة، فإن الموافقة في الأحوال صلة تقوم مقام صلة القرابة أو تفوقها.
واتفق القراء على كسر سين: {السّجن} هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه المعاقبون، لأن الصاحب لا يضاف إلى السجن إلا بمعنى المكان.
والإضافة هنا على تقدير حرف الظرفية، مثل: مكر الليل، أي يا صاحبيْن في السجن.
وأراد بالكلام الذي كلّمهما به تقريرهما بإبطال دينهما، فالاستفهام تقريري.
وقد رَتّب لهما الاستدلال بوجه خطابي قريب من أفهام العامة، إذ فرض لهما إلهًا واحدًا مستفردًا بالإلهية كما هو حال ملته التي أخبرهم بها.
وفرض لهما آلهة متفرقين كل إله منهم إنما يتصرف في أشياء معينة من أنواع الموجودات تحت سلطانه لا يعدوها إلى ما هو من نطاق سلطان غيره منهم، وذلك حال ملة القبط.
ثم فرض لهما مفاضلة بين مجموع الحالين حال الإله المنفرد بالإلهية والأحوال المتفرقة للآلهة المتعددين ليصل بذلك إلى إقناعهما بأن حال المنفرد بالإلهية أعظم وأغنى، فيرجعان عن اعتقاد تعدد الآلهة.
وليس المراد من هذا الاستدلال وجود الحالين في الإلهية والمفاضلة بين أصحاب هذين الحالين لأن المخاطبين لا يؤمنون بوجود الإله الواحد.
هذا إذا حمل لفظ: {خير} على ظاهر المتعارف منه وهو التفضيل بين مشتركات في صفة.
ويجوز أن يكون: {خير} مستعملًا في معنى الخير عند العقل، أي الرجحان والقبول.
والمعنى: اعتقاد وجود أرباب متفرقين أرجح أم اعتقاد أنه لا يوجد إلا إله واحد، ليستنزل بذلك طائر نظرهما واستدلالهما حتى ينجلي لهما فساد اعتقاد تعدد الآلهة، إذ يتبين لهما أن أربابًا متفرقين لا يخلو حالهم من تطرق الفساد والخلل في تصرفهم، كما يومئ إليه وصف التفرق بالنسبة للتعدد ووصف القهار بالنسبة للوحدانية.
وكانت ديانة القبط في سائر العصور التي حفظها التاريخ وشهدت بها الآثار ديانة شِرك، أي تعدد الآلهة.
وبالرغم على ما يحاوله بعض المؤرخين المصريين والإفرنج من إثبات اعتراف القبط بإله واحد وتأويلهم لهم تعدد الآلهة بأنها رموز للعناصر فإنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا إلا أن هذا الإله هو معطي التصرف للآلهة الأخرى.
وذلك هو شأن سائر أديان الشرك، فإن الشرك ينشأ عن مثل ذلك الخيال فيصبح تعدد آلهة.
والأممُ الجاهلة تتخيل هذه الاعتقادات من تخيلات نظام ملوكها وسلاطينها وهو النظام الإقطاعي القديم.
نعم إن القبط بنوا تعدد الآلهة على تعدد القوى والعناصر وبعض الكواكب ذات القوى.
ومثلهم الإغريق فهم في ذلك أحسن حالًا من مشركي العرب الذين ألّهوا الحجارة.
وقصارى ما قسموه في عبادتها أن جعلوا بعضها آلهة لبعض القبائل كما قال الشاعر:
وفرّت ثقيف إلى لاتها

وأحسن حالًا من الصابئة الكلدانيين والأشوريين الذين جعلوا الآلهة رموزًا للنجوم والكواكب.
وكانت آلهة القبط نحوًا من ثلاثين ربًا أكبرها عندهم آمون رُعْ.
ومن أعظم آلهتهم ثلاثة أخر وهي: أوزوريس، وأزيس، وهوروس.
فللّه بلاغة القرآن إذ عبر عن تعددها بالتفرق فقال: {أأربابٌ متفرقون} [سورة يوسف: 39].
وبعد أن أثار لهما الشك في صحة إلهيّة آلهتهم المتعددين انتقل إلى إبطال وجود تلك الآلهة على الحقيقة بقوله: {ما تَعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}، يعني أن تلك الآلهة لا تحقق لحقائقها في الوجود الخارجي بل هي توهّمات تخيّلوها.
ومعنى قصرها على أنها أسماء قصرًا إضافيًا، أنها أسماء لا مسمياتتٍ لها فليس لها في الوجود إلا أسماؤها.
وقوله: {أنتم وآباؤكم} جملة مفسرة للضمير المرفوع في: {سميتموها}.
والمقصود من ذلك الردّ على آبائهم سدًّا لمنافذ الاحتجاج لأحقيتها بأن تلك الآلهة معبودات آبائهم، وإدماجًا لتلقين المعذرة لهما ليسهل لهما الإقلاع عن عبادة آلهة متعددة.
وإنزال السلطان: كناية عن إيجاد دليل إلهيتها في شواهد العالم.
والسلطانُ: الحجة.
وجملة: {إن الحكم إلا لله} إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم بأنها لا حكم لها فيما زعموا أنه من حكمها وتصرفها.
وجملة: {أمَرَ أن لا تعبدوا إلا إياه} انتقال من أدلة إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية إلى التعليم بامتثال أمره ونهيه، لأن ذلك نتيجة إثبات الإلهية والوحدانية له، فهي بيان لجملة: {إن الحكم إلا لله} من حيث ما فيها من معنى الحكم.
وجملة: {ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} خلاصة لما تقدم من الاستدلال، أي ذلك الدين لا غيرُه مما أنتم عليه وغيرُكم.
وهو بمنزلة رد العجز على الصدر لقوله: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله إلى لا يشكرون} [سورة يوسف: 38]. اهـ.